مصنع الفقاعات
في زاوية هادئة من غرفة مليئة بالهموم في مركز الحسين للسرطان، كان أحمد جالسًا في حضن أمه، مستندًا عليها كأنها حصنه الأخير في مواجهة عالم غريب ومخيف. لم يكن أحمد طفلاً عادياً في تلك اللحظة؛ كان الصمت يحيط به كدرع يحميه من كل شيء حوله، وعيناه مركّزتان فقط على شاشة التابلت، كأنها نافذته الوحيدة للعالم.
عندما دخلنا، أنا ودكتورة نغمة، كان الجو مشحونًا بالتردد. أبوه كان واقفًا في الزاوية، يتطلع إلينا بنظرات مليئة بالدهشة والتساؤل. بدا واضحًا أنه لم يكن مرتاحًا لوجودنا، ولا يفهم تمامًا ما الذي نفعله هناك. أمه، ورغم حنانها، كانت متوجسة، وكأنها تخشى أن يزداد خوف أحمد.
اقتربت منه بهدوء، بصفتي الدكتور عشرة، وبدأت الحديث بصوت منخفض ومطمئن: “أحمد، صباح الخير" أنا هون علشان أشوف عيونك الحلوه وألعب معك، إذا بدك.” لكن أحمد لم ينظر إليّ، وكأن كلماتي لم تصل إليه.
نظرت إلى دكتورة نغمة، وبإيماءة صغيرة، قررنا أن نبدأ بشيء بسيط. أخرجت علبة الفقاعات من جيبي، ونفخت أول فقاعة. كانت صغيرة وهادئة، تتهادى في الهواء مثل حلم شفاف. نظرة خجولة هربت من عيني أحمد، وكأن تلك الفقاعة كسرت شيئًا صغيرًا من قوقعته.
ثم جاءت الفقاعة الثانية، أكبر قليلًا، تتحرك بخفة نحو السقف. فجأة، بدأت الغرفة تتغير. الهواء امتلأ بالفقاعات الراقصة، ألوانها تعكس ضوء النهار كأنها قطع صغيرة من السحر. بدأ أحمد يرفع رأسه، يتأمل بفضول، ثم نزل ببطء من حضن أمه. كانت تلك اللحظة بداية التغيير.
وقف أحمد على الأرض، ثم مد يده ليحاول الإمساك بواحدة من تلك الكرات السحرية. ضحكة صغيرة خرجت منه، كانت أشبه بنغمة موسيقية أزاحت الغيم من الغرفة. بدأت دكتورة نغمة تتحدى أحمد بلعبة صغيرة: "من يستطيع الإمساك بأكبر عدد من الفقاعات؟”
وفجأة، تحول الصمت إلى حيوية. أحمد كان يقفز، يركض، يضحك، يطارد الفقاعات بكل شغف الدنيا. حتى أنه التفت إلى أبيه، الذي كان واقفًا بعيدًا، وقال له بابتسامة عريضة: "بابا، تعال نلعب معًا!”
ابتسم الأب بحرج في البداية، لكنه اقترب ببطء، وبدأ يشارك ابنه اللعبة. كانت تلك اللحظة مليئة بالدهشة، كأن جدران الغرفة نفسها تنفست ارتياحًا. أحمد كان يركض ويمسك بيد والده، وكأن الفقاعات لم تكن مجرد لعبة، بل خيطًا يربط بينهما، خيطًا جمع تلك العائلة في لحظة نادرة من السعادة الخالصة.
في نهاية الزيارة، وقفنا أمام أحمد وأعلنا بفخر: "أحمد هو الفائز اليوم!”
قدمنا له الأنف الأحمر كجائزة رمزية، ووضعناه على أنفه الصغير. ضحك بصوت عالٍ، وأمه لم تستطع حبس دموعها وهي تنظر إليه.
أبوه، الذي كان في البداية متحفظًا ومبتعدًا، تقدم نحونا وشكرنا بصوت مليء بالامتنان. قال بلغة ثقيلة ولكن بمشاعر واضحة:
“Thank you… you made us happy today.”
غادرنا غرفة أحمد، لكن سحر تلك اللحظات بقي معنا. كانت زيارة مليئة بالحياة، بالألوان، وبالأمل. لم تكن مجرد فقاعات، بل كانت جسورًا صغيرة تصل بين القلوب، تربط بين العوالم، وتذكرنا دائمًا أن وجودنا لا يتعلق فقط برسم الضحكة، بل بمنح الحياة معنى جديدًا.
ومع نهاية اليوم، ومع نهاية عام كامل من الزيارات، أدركت أن مصنع الفقاعات لم يكن مجرد أداة للعب. كان رمزًا لكل شيء نحاول أن نقدمه: لحظات خفيفة لكنها قادرة على تغيير الثقل الذي تحمله القلوب. أحمد ووالداه سيظلون في قلبي، تمامًا كما ستظل كل لحظة صنعنا فيها سحرًا بسيطًا ولكنه عظيمًا.